فصل: قال البغوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والوجه السادس: إن التوفي أخذ الشيء وافيًا، ولما علم الله إن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو روحه لا جسده ذكر هذا الكلام ليدل على أنه عليه الصلاة والسلام رفع بتمامه إلى السماء بروحه وبجسده ويدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَئ} [النساء: 113].
والوجه السابع: {إِنّي مُتَوَفّيكَ} أي أجعلك كالمتوفى لأنه إذا رفع إلى السماء وانقطع خبره وأثره عن الأرض كان كالمتوفى، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن.
الوجه الثامن: أن التوفي هو القبض يقال: وفاني فلان دراهمي وأوفاني وتوفيتها منه، كما يقال: سلم فلان دراهمي إلي وتسلمتها منه، وقد يكون أيضا توفي بمعنى استوفى وعلى كلا الاحتمالين كان إخراجه من الأرض وإصعاده إلى السماء توفيًا له.
فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان التوفي عين الرفع إليه فيصير قوله: {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} تكرارًا.
قلنا: قوله: {إِنّي مُتَوَفّيكَ} يدل على حصول التوفي وهو جنس تحته أنواع بعضها بالموت وبعضها بالإصعاد إلى السماء، فلما قال بعده {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} كان هذا تعيينًا للنوع ولم يكن تكرارًا.
الوجه التاسع: أن يقدر فيه حذف المضاف والتقدير: متوفي عملك بمعنى مستوفي عملك {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} أي ورافع عملك إلي، وهو كقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] والمراد من هذه الآية أنه تعالى بشّره بقبول طاعته وأعماله، وعرفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق في تمشية دينه وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يضيع أجره ولا يهدم ثوابه، فهذه جملة الوجوه المذكورة على قول من يجري الآية على ظاهرها.
الطريق الثاني: وهو قول من قال: لابد في الآية من تقديم وتأخير من غير أن يحتاج فيها إلى تقديم أو تأخير، قالوا إن قوله: {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} يقتضي أنه رفعه حيًا، والواو لا تقتضي الترتيب، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير، والمعنى: أني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا، ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرآن.
واعلم أن الوجوه الكثيرة التي قدمناها تغني عن التزام مخالفة الظاهر، والله أعلم. اهـ.

.قال محمد بن أبى بكر الرازي:

لما هدده اليهود بالقتل بشره بأنه يقبض روحه بالوفاة لا بالقتل، والواو لا تفيد الترتيب ليلزم من الآية موته قبل رفعه. اهـ.

.قال البغوي:

{إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} اختلفوا في بعض التوفي هاهنا، قال الحسن والكلبي وابن جريج: إني قابضك ورافعك في الدنيا إليِّ من غير موت، يدل عليه قوله تعالى: {فلما توفيتني} (117- المائدة) أي قبضتني إلى السماء وأنا حي، لأن قومه إنما تنصروا بعد رفعه إلى السماء لا بعد موته، فعلى هذا للتوفي تأويلان، أحدهما: إني رافعك إلي وافيًا لم ينالوا منك شيئا، من قولهم توفيت كذا واستوفيته إذا أخذته تامًا والآخر: أني مستلمك من قولهم توفيت منه كذا أي تسلمته، وقال الربيع بن أنس: المراد بالتوفي النوم وكل ذي عين نائم وكان عيسى قد نام فرفعه الله نائما إلى السماء، معناه: أني منومك ورافعك إلي كما قال الله تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} (60- الأنعام) أي ينيمكم. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} ففي الآية تقديم وتأخير، ومعناه إني رافعك من الدنيا إلى السماء، ومتوفّيك بعد أن تنزل من السماء على عهد الدجال ويقال: أنه ينزل ويتزوج امرأة من العرب بعدما يقتل الدجال، وتلد له ابنة، فتموت ابنته، ثم يموت هو بعدما يعيش سنين، لأنه قد سأل ربه أن يجعله من هذه الأمة، فاستجاب الله دعاءه. اهـ.

.قال ابن عادل:

قال القرطبيُّ: والصحيح أن الله تعالى- رفعه من غير وفاةْ ولا نومٍ- كما قال الحسنُ وابنُ زيد- وهو اختيار الطبريِّ، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس.
وقال الضحاك: وكانت القصة أنهم لما أرادوا قَتْلَ عيسى عليه السلام اجتمع الحواريُّونَ في غرفة- وهم اثنا عشرَ رَجُلًا، فدخل عليهمُ المسيحُ من مشكاةِ الغرفةِ، فأخبر إبليس جَميع الْيَهُودِ، فركب منهم أربعة آلاف رجلٍ، فأخذوا بباب الغرفة، فقال المسيح للحواريين: أيُّكُمْ يخرج، ويقتل، ويكون معي في الجنة؟ فقال واحدٌ منهم أنا يا نبيَّ الله، فألقَى إليه مدرعة من صوف، وعمامة من صوفٍ، ونَاوَلَه عُكَّازه، وألقي عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود فقتلوه، وصلبوه، وأما عيسى فكساه اللهُ الرِّيشَ، وألبسه النورَ، وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب، فَطَارَ مع الملائكة، ثم إن اصحابه تفرقوا ثلاث فرق:
فقالت فرقة: كان اللهُ فينا، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية.
وقالت فرقة: كان فينا ابن الله- ما شاء الله- ثم رفعه الله إليه- وهم النسطورية.
وقالت فرقة: كان فينا عبدُ الله ورسوله- ما شاء الله- ثم رفعه الله إليه- وهؤلاء هم المسلمون.
فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يَزَل الإسلام طامسًا حتى بَعَثَ اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم {فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بني إسرائيل وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ} [الصف: 14] الآية على ما سيأتي من السورة إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال القرطبي:

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لينزِلنّ ابنُ مَرْيَمَ حكما عادلًا فليكسِرنّ الصليب وليقتلنّ الخنزير وليضعن الجِزية ولتُتركُنّ الْقِلاَصُ فلا يسعى عليها ولتَذهبَن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعونّ إلى المال فلا يقبله أحد» وعنه أيضا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ليُهلنّ ابن مريم بفَجِّ الرّوْحاء حاجًا أو معتمرًا أو ليثَنينّهما» ولا ينزل بشرع مبتدإ فينسخ به شريعتنا بل ينزل مجدِّدًا لما دَرَس منها متبعها.
كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» وفي رواية: «فأمّكم منكم».
قال ابن أبي ذِئب: تدري ما أمّكم منكم؟.
قلت: تخبِرني.
قال: فأمّكم بكتاب ربكم تبارك وتعالى وسنةِ نبيكم صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.كلام غريب لابن عاشور:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}.
استئناف؛ وإذ ظرف غير متعلق بشيء، أو متعلق بمحذوف، أي اذكر إذ قال الله: كما تقدم في قوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وهذا حكاية لأمر رفع المسيح وإخفائه عن أنظار أعدائه. وقدم الله في خطابه إعلامه بذلك استئناسا له، إذ لم يتم ما يرغبه من هداية قومه. مع العلم بأنه يحب لقاء الله، وتبشيرا له بأن الله مظهر دينه، لأن غاية هم الرسول هو الهدى، وإبلاغ الشريعة، فلذلك قال له: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} والنداء فيه للاستئناس، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقبض نبي حتى يخير».
وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} ظاهر معناه: إني مميتك، هذا هو معنى هذا الفعل في مواقع استعماله لأن أصل فعل توفى الشيء أنه قبضه تاما واستوفاه. فيقال: توفاه الله أي قدر موته، ويقال: توفاه ملك الموت أي أنفذ إرادة الله بموته، ويطلق التوفي على النوم مجازا بعلاقة المشابهة في نحو قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام: 60] وقوله: {الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر: 42]. أي وأما التي تمت الموت المعروف فيميتها في منامها موتا شبيها بالموت التام كقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ثم قال حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} فالكل إماتة في التحقيق، وإنما فصل بينهما العرف والاستعمال، ولذلك فرع بالبيان بقوله: {فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى}، فالكلام منتظم غاية الانتظام، وقد اشتبه نظمه على بعض الأفهام. وأصرح من هذه الآية آية المائدة فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم لأنه دل على أنه قد توفى الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء وبين علم ما يقع في الأرض، وحملها على النوم بالنسبة لعيسى لا معنى له؛ لأنه إذا أراد رفعه لم يلزم أن ينام؛ ولأن النوم حينئذ وسيلة للرفع فلا ينبغي الاهتمام بذكره وترك ذكر المقصد، فالقول بأنها بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجاد معنى جديد للوفاة في اللغة بدون حجة، ولذلك قال ابن عباس، ووهب بن منبه: إنها وفاة موت وهو ظاهر قول مالك في جامع العتبية قال مالك: مات عيسى وهو ابن إحدى وثلاثين سنة قال ابن رشد في البيان والتحصيل يحتمل أن قوله: مات وهو ابن ثلاث وثلاثين على الحقيقة لا على المجاز.
وقال الربيع: هي وفاة نوم رفعه الله في منامه، وقال الحسن وجماعة: معناه إني قابضك من الأرض، ومخلصك في السماء، وقيل: متوفيك متقبل عملك. والذي دعاهم إلى تأويل معنى الوفاة ما ورد في الأحاديث الصحيحة: أن عيسى ينزل في آخر مدة الدنيا، فأفهم أن له حياة خاصة أخص من حياة أرواح بقية الأنبياء، التي هي حياة أخص من حياة بقية الأرواح؛ فإن حياة الأرواح متفاوتة كما دل عليه حديث: «أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر».
ورووا أن تأويل المعنى في هذه الآية أولى من تأويل الحديث في معنى حياته وفي نزوله، فمنهم من تأول معنى الوفاة فجعله حيا بحياته الأولى، ومنهم من أبقى الوفاة على ظاهرها، وجعل حياته بحياة ثانية، فقال وهب بن منبه: توفاه الله ثلاث ساعات ورفعه فيها، ثم أحياه عنده في السماء، وقال بعضهم: توفي سبع ساعات. وسكت ابن عباس ومالك عن تعيين كيفية ذلك، ولقد وفقا وسددا. ويجوز أن تكون حياته كحياة سائر الأنبياء، وأن يكون نزوله إن حمل على ظاهره بعثا له قبل إبان البعث على وجه الخصوصية، وقد جاء التعبير عن نزوله بلفظ: «يبعث الله عيسى فيقتل الدجال» رواه مسلم عن عبد الله بن عمر، ولا يموت بعد ذلك بل يخلص من هنالك إلى الآخرة.
وقد قيل في تأويله: إن عطف {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} على التقديم والتأخير؛ إذ الواو لا تفيد ترتيب الزمان أي إني رافعك إلي ثم متوفيك بعد ذلك، وليس في الكلام دلالة على أنه يموت في آخر الدهر سوى أن في حديث أبي هريرة في كتاب أبي داود: «ويمكث» أي: «عيسى أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون» والوجه أن يحمل قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} على حقيقته، وهو الظاهر، وأن تؤول الأخبار التي يفيد ظاهرها أنه حي على معنى حياة كرامة عند الله، كحياة الشهداء وأقوى، وأنه إذا حمل نزوله على ظاهره دون تأويل، أن ذلك يقوم مقام البعث، وأن قوله في حديث أبي هريرة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون مدرج من أبي هريرة لأنه لم يروه غيره ممن رووا حديث نزول عيسى، وهم جمع من الصحابة، والروايات مختلفة وغير صريحة. ولم يتعرض القرآن في عد مزاياه إلى أنه ينزل في آخر الزمان. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ} الآية، هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها وفاة عيسى عليه السلام وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على خلاف ذلك كقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}، وقوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية على ما فسرها به ابن عباس في إحدى الروايتين، وأبو مالك والحسن وقتادة وابن زيد وأبو هريرة، ودلّت على صدقه الأحاديث المتواترة، واختاره ابن جرير، وجزم ابن كثير أنه الحق من أن قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي موت عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: أنّ قوله تعالى: {مُتَوَفِّيكَ} لا يدل على تعيين الوقت، ولا يدل على كونه قد مضى، وهو مُتَوَفّيه قطعًا يومًا ما، ولكن لا دليل على أنّ ذلك اليوم قد مضى، وأما عطفه {وَرَافِعُكَ إِلَيّ} على قوله: {مُتَوَفِّيكَ} فلا دليل عليه لإطباق جمهور اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع، وإنما تقتضي مطلق التشريك، وقد ادّعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك، وعزاه الأكثر للمحققين، وهو الحق، خلافا لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمر والزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه، وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال: لم أجده في كتابه. وقال ولي الدين: أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي، حكاه عنه صاحب (الضياء اللامع) وقوله صلى الله عليه وسلم: «أبدأ بما بدأ الله به» يعني الصفا، لا دليل عليه على اقتضائها الترتيب، وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكر عنه صاحب الضياء اللامع وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية، فكذلك لا تقتضي المنع منهما فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول كقوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله} الآية بدليل الحديث المتقدم. وقد يكون المعطوف بها مرتبا كقول حسان: (هجوت محمد وأجبت عنه) على رواية الواو، وقد يراد بها المعية كقوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ}، وقوله: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}، ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل.
الوجه الثاني: أنّ معنى {مُتَوَفِّيكَ} أي منيمك ورافعك إليّ أي في تلك النومة، وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}، وقوله: {الله يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}، وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين، واستدل بالآيتين المذكورتين وقوله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا...» الحديث.
الوجه الثالث: أنّ {مُتَوَفِّيكَ} اسم فاعل توفاه إذا قبضه وحازه إليه ومنه قولهم: توفّى فلان دينه إذا قبضه إليه.. فيكون معنى {مُتَوَفِّيكَ} على هذا قابضك منهم إلي حيا، وهذا القول هو اختيار بن جرير. وأما الجمع بأنه توفّاه ساعات أو أياما ثم أحياه فالظاهر أنه من الإسرائليات، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تصديقها وتكذيبها. اهـ.

.كلام نفيس الألوسي:

قال عليه الرحمة:
{إِذْ قَالَ الله} ظرف لمكر أو لمحذوف نحو وقع ذلك ولو قدر أذكر كما في أمثاله لم يبعد وتعلقه بالماكرين بعيد إذ لا يظهر وجه حسن لتقييد قوة مكره تعالى بهذا الوقت {ياعيسى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: هذا من المقدم والمؤخر أي: رافعك إليّ ومتوفيك، وهذا أحد تأويلات اقتضاها مخالفة ظاهر الآية للمشهور المصرح به في الآية الأخرى، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة».
وثانيها: أن المراد إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك فالكلام كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام لأنه يلزم من استيفاء الله تعالى أجله وموته حتف أنفه ذلك. وثالثها: أن المراد قابضك ومستوفي شخصك من الأرض من توفى المال بمعنى استوفاه وقبضه. ورابعها: أن المراد بالوفاة هنا النوم لأنهما أخوان ويطلق كل منهما على الآخر، وقد روي عن الربيع أن الله تعالى رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وهو نائم رفقًا به، وحكي هذا القول والذي قبله أيضا عن الحسن. وخامسها: أن المراد أجعلك كالمتوفى لأنه بالرفع يشبهه، وسادسها: أن المراد آخذك وافيًا بروحك وبدنك فيكون {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} كالمفسر لما قبله، وسابعها: أن المراد بالوفاة موت القوى الشهوانية العائقة عن إيصاله بالملكوت، وثامنها: أن المراد مستقبل عملك، ولا يخلو أكثر هذه الأوجه عن بعد لاسيما الأخير، وقيل: الآية محمولة على ظاهرها، فقد أخرج ابن جرير عن وهب أنه قال: توفى الله تعالى عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه. وأخرج الحاكم عنه أن الله تعالى توفى عيسى سبع ساعات ثم أحياه، وأن مريم حملت به ولها ثلاث عشرة سنة وأنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين، وأن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين، وورد ذلك في رواية ضعيفة عن ابن عباس والصحيح كما قاله القرطبي أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم وهو اختيار الطبري والرواية الصحيحة عن ابن عباس، وحكاية أن الله تعالى توفاه سبع ساعات ذكر ابن إسحق أنها من زعم النصارى. ولهم في هذا المقام كلام تقشعر منه الجلود، ويزعمون أنه في الإنجيل وحاشا الله ما هو إلا افتراء وبهتان عظيم، ولا بأس بنقله ورده فإن في ذلك ردّ عواهم فيه عليه السلام الربوبية على أتم وجه، فنقول: قالوا: بينما المسيح مع تلاميذه جالس ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر نيسان إذ جاء يهودا الأسخريوطي أحد الاثني عشر ومعه جماعة معهم السيوف والعصي من عند رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب وقد قال لهم يهودا: الرجل الذي أقبل هو هو فأمسكوه فلما رأى يهودا المسيح قال: السلام عليك يا معلم ثم أمسكوه فقال يسوع: مثل ما يفعل باللصوص خرجتم لي بالسيوف والعصي وأنا عندكم في الهيكل كل يوم أعلم فلم تتعرضوا لي لكن هذه ساعة سلطان الظلمة فذهبوا به إلى رئيس الكهنة حيث تجتمع الشيوخ وتبعه بطرس من بعيد ودخل معه الدار ليلًا وجلس ناحية منها متنكرًا ليرى ما يؤول أمره إليه فالتمس المشايخ على يسوع شهادة يقتلونه بها فجاء جماعة من شهود الزور فشهد منهم اثنان أن يسوع قال: أنا أقدر أن أنقض هيكل الله تعالى وأبنيه في ثلاثة أيام فقال له الرئيس: ما تجيب عن نفسك بشيء؟ فسكت يسوع فأقسم عليه رئيس الكهنة بالله الحي أنت المسيح؟ فقال أنت قلت ذاك وأنا أقول لكم من الأن لا ترون ابن الإنسان حتى تروه جالسًا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء وأن ناسًا من القيام هاهنا لا يذوقون الموت حتى يرون ابن الإنسان آتيًا في ملكوته فلما سمع رئيس الكهنة ذلك شق ثيابه وقال: ما حاجتنا إلى شهادة يهودا قد سمعتم ماذا ترون في أمره؟ فقالوا: هذا مستوجب الموت فحينئذٍ بصقوا في وجه البعيد ولطموه وضربوه وهزأوا به وجعلوا يلطمونه ويقولون: بين لنا من لطمك ولما كان من الغد أسلموه لفيلاطس القائد فتصايح الشعب بأسره يصلب يصلب فتحرج فيلاطس من قتله، وقال: أي شر فعل هذا فقال الشيوخ: دمه عليهم وعلى أولادهم فحينئذٍ ساقه جند القائد إلى الأبروطوريون فاجتمع عليه الشعب ونزعوه ثيابه وألبسوه لباسًا أحمر وضفوا إكليلًا من الشوك وتركوه على رأسه وجعلوا في يده قصبة ثم جثوا على ركبهم يهزأون به ويقولون: السلام عليك يا ملك اليهود وشرعوا يبصقون عليه ويضربونه في رأسه ثم ذهبوا به وهو يحمل صليبه إلى موضع يعرف بالجمجمة فصلبوه وسمروا يديه على الخشبة فسألهم شربة ماء فأعطوه خلًا مدافًا بمرّ فذاقه ولم يسغه وجلس الشرط فاقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة وجعلوا عند رأسه لوحًا مكتوبًا هذا يسوغ ملك اليهود استهزاءًا به، ثم جاءوا بلصين فجعلوهما عن يمينه وشماله تحقيرًا له وكان اليهود يقولون له: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك وإن كنت ابن الله كما تقول انزل عن الصليب، وقال اليهود: هذا يزعم أنه خلص غيره فكيف لم يقدر على خلاص نفسه إن كان متوكلًا على الله تعالى فهو ينجيه مما هو فيه؟ ولما كان ست ساعات من يوم الجمعة صرخ يسوع وهو على الصليب بصوت عظيم آلوي آلوي إيما صاصا أي إلهي إلهي لم تركتني وخذلتني وأخذ اليهود سفنجة فيها خل ورفعها أحدهم على قصبة وسقاه، وقال آخر: دعوه حتى نرى من يخلصه فصرخ يسوع وأمال رأسه وأسلم الروح وانشق حجاب الهيكل وانشقت الصخور وتفتحت القبور وقام كثير من القديسين من قبورهم ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا للناس ولما كان المساء جاء رجل من ألزامه يسمى يوسف بلفائف نقية وتركه في قبر كان قد نحته في صخرة ثم جعل على باب القبر حجرًا عظيمًا وجاء مشايخ اليهود من الغد الذي بعد الجمعة إلى فيلاطس القائد فقالوا: يا سيدي ذكرنا أن ذاك الضال كان قد ذكر لتلاميذه أنا أقوم بعد ثلاثة أيام فلو أمرت من يحرس القبر حتى تمضي المدة كي لا تأتي تلاميذه ويسرقوه ثم يشيعون في الشعب أنه قام فتكون الضلالة الثانية شرًا من الأولى فقال لهم القائد: اذهبوا وسدوا عليه واحرسوه كما تريدون فمضوا وفعلوا ما أرادوا، وفي عشية يوم السبت جاءت مريم المجدلانية ومريم رفيقتها لينظرن إلى القبر.